أنا والنجوم ...
من كتاب " من حديث النفس" .... للشيخ علي الطنطاوي، نشرت سنة 1937م
***
ما من كلمة هي أثقل على السامع وابغض إليه، من كلمة (أنا)، وما حديث اكره إلى الناس من حديث المرء عن نفسه...بيد إني متحدث الليلة عن نفسي، وقائل (أنا)، وجاعلها عنوان مقالتي، لأني منفرد بنفسي، لا أجد معي من أتحدث عنه إلا (أنا).
أنا حين أتحدث عن نفسي أتحدث عن كل نفس، وحين اصف شعور واحد وعواطفه، اصف شعور الناس كلهم وعواطفهم، كصاحب التشريح لا يشق الصدور جميعا ليعرف مكان القلب وصفته، ولكنه يشق الصدر والصدرين ثم يقعّد القاعدة، ويؤصل الأصل، فلا يشذّ عنه إنسان... سنة الله في الخلق، وقانونه المحكم، ونظامه العجيب الذي جعل الناس مختلفين وهم متشابهون، ومتشابهين وهم مختلفون، برأهم على الوحدة في الحقيقة، والتنوع في الجمال، فخلق العيون كلها خلقا واحدا، وكل عين ككل عين، في تركيبها ووضعها، وصفتها، وما عين مثل عين في شكلها ومعناها وجمالها، تلك حكمة الحكيم الخبير، وهذه صنعة المبدع القدير !
***
أنا منفرد على سطح دار في الزبير(والزبير: بلدة صغيرة على سيف البادية، غربي البصرة،تبعد عنها سبعة أميال) .في هذه الليلة الساكنة المتلألئة النجوم، وأمامي الصحراء التي تمتد إلى عمان واليمن ونجد والحجاز، وورائي السواد الذي يصل ارض فارس، وهي قريبة، حتى أني لأرى لهيب النفط المشتعل في (عبدان) وأنا في مكاني... أتأمل هذه الصحراء المجيدة المباركة، التي كتب على رمالها أروع سطور المجد، وأجمل صحائف التاريخ، ونبت في رمالها دوح الحضارة الذي أوت إليه الإنسانية، وتقيأت ظلاله يوم لا ظل في الأرض إلا ظله، وأفكر فيطول بي التفكير، ويطل بي الفكر على آفاق واسعة ودنياوات عظيمة، وتنبلج في نفسي أصباح منيرة، فأجد في رأسي مئات من الأفكار الجديدة الكبيرة، وفي نفسي مئات من الصور الرائعة المبتكرة، ولكني لا أكاد امسك الواحدة منها لأقيدها بالألفاظ، واغلها بالكلم، حتى تفلت مني وتعدو في طريقها منحدرة إلى أغوار عقلي الباطن، فلا أنا استمتعت بها استمتاع الناس بأفكارهم، ولا أنا سجلتها في مقاله وصنعت منها تحفة أدبية، ولو إني قدرت أن اكتب معشار ما أتصور لكنت شيئا عظيما، ولكني لا اقدر... ولا اصب في مقالتي إلا حثالة أفكاري . تنبت الأفكار في نفسي وتزهر وتثمر ، ثم تذوي وتجف فآخذ الهشيم فأضعه في مقالتي!
ويتفجر الينبوع في نفسي ، ويتدفق ويسيل، ثم ينضب وينقطع، فآخذ الوحل فأضعه في مقالتي!
وينبثق الفجر في نفسي، ويقوى ويشتد ، ويكون الضحى والزوال، ثم يعود الليل، فآخذ قبضة من الظلام الليل ، لأكتب منها مقالة ، عنوانها..((ضياء الفجر))!
من اجل ذلك اكره أن انظر في كل ما كتبت ، واستحي أن أعود إليه، وأحب كل جديد لم ينشر، وارى أن الذي يمدحني بمقالاتي يحقني لأنه لا يعلم إنها درهم من خزائن نفسي المفعمة بالذهب، فهو يقول لي : ان الدرهم كبير منك لأنك فقير، ولكن الذي ينقد مقالاتي ويتنقصها يقول لي : انك غني فالدرهم قليل منك، ان هذه المقالة حقيرة لأنك أنت عظيم...
لبثت اعرض هذه المواكب من الأفكار، حتى تعبت ومللت، فألقيتها كلها في الصحراء، وجلست أفكر في الصحراء وحدها...
نظرت إليها وهي متمددة على سرير الجزيرة الواسع، نائمة ، فامتلأت إكبارا لها وإعظاما، ثم فكرت أن لو فتحت الصحراء عينها، أكانت تبصرني، وتحس بوجودي ؟ أأشعر انا بوجود نمله حملتها الريح فطارت بها، فمست وجهي وهي طائرة، ثم مضت في سبيلها؟ ما أنا في وجود الصحراء إلا رملة، وما حياتي الا لحظة من حياتها، ولو تثاءبت الصحراء، أو حكت انفها لتصرم قرن كامل قبل أن تنهي من تثاؤبها وحكها انفها...فم أعظم الصحراء وما أطول عمرها...
-بل ما اقل الصحراء وما اقصر عمرها!
ما الصحراء ؟ بل ما الأرض كلها؟ وما هذه المليار من القرون الذي عاشته؟ انه يوم من حياتي ، إنها نقطه من بحري...إني نمت يوما فلما أفقت وجدت نقطة صغيرة هناك ، فقلت: ما هذا ؟ قالوا : مخلوق صغير يدعى الشمس...
فعجبت من صغرها ثم لم احفل بها...فما أرضك هذا يا...يا...يا أيها العدم!
هذا ما قاله لي كوكب قريب، كان ينظر اليَّ باسما فذكرت ما قاله علماء الفلك عن الكواكب وعظمتها، فسكت ولم انطق، ...وإذا بكوكب أخر..يطل من هناك يقهقه ضاحكا يصرخ في وجه الأول : اسكت اسكت أيها النملة الحقيرة من أنت ؟ إن آلافا مثلك لا تملا واديا واحدا من أوديتي، إنني احمل مائة مثلك بين إصبعين من أصابعي....
وكان وراءه كوكب خافت لا يقول شيئا ، لأنه لم يعلم بوجود هذا كله، لا يراه لبعده وصغره، وكان وراءه ستمائة مليون من الكواكب كل واحد اكبر من الذي قبله، وأصغرها من هذا الكوكب كالفيل من البعوضة...فجلست أحدق في هذا الكوكب ذاهلا مشدوها ، وانقطعت أفكاري عن الجريان وأحسست بضآلتي، حتى لقد خلتني عدما...
ثم صغرت هذه الكواكب في نظري لما رأيت شيئا أعظم منها، صغرت لما رأيت السماء(سقفا مرفوع)) حتى غدت كلها ((مصابيح تزين السماء الدنيا))، ورأيت السماوات تطيف بها كلها. تحيط بهذا الفضاء ((سبعا طباقا))، ورأيت الجنة من وراء ذلك ((عرضها السماوات والأرض))، ورأيت العرش والكرسي، وتلك الكائنات العظيمة فأحسست أن عقلي ينهدم ويتحطم حين يحاول التفكير فيها وهي مخلوقة ، فكيف به حين يحاول التفكير في الخالق؟
وذهبت أقابل بين هذه العظمة الهائلة التي لا يدنو من تصورها العقل، وتلك الدقة الهائلة دقة الجراثيم التي يمر الالف منها من ثقب ابره، دقة الكهارب التي يكون منها في الذرة الواحدة مئات من الكواكب الصغيرة ، يدور بعضها على بعض، كما تدور كواكب المجموعة الشمسية، ذهبت أقابل بين هذا وذلك فعجزت، وأنكرت نفسي وجحدتها، وامتلأت إيمانا بالخالق الأعظم، فصحت من أعماق قلبي:
لا اله إلا الله !
***
أنكرت نفسي ولم اعد أراها شيئا..ونسيت يدي ورجلي ، حتى لقد حسبتهما جزءا من الكرسي أو السرير الذي اجلس عليه، وأضعت ميولي كلها وشهواتي، حتى لم يبقى لي (أنا) وإنما أنا صرت الكون كله، الكون الذي ردد معي قولي، لا اله إلا الله، فأحسست حينما أنكرت نفسي بلذة الوجدان التي لا توصف:
لا يعرف العشق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
وبدأت افهم ما كنت قرأته من أقوال أهل التصوف، وتعلمت أن الإنسان لا يحس بعظمة الله ن إلا إذا نسي نفسه وعظمته، هنالك يجد هذا ((الجرم الصغير )) الذي هو رمله في الصحراء وعدم في وجود الكواكب ، والذي لا يمتد عمره أكثر من لحظة في عمر السماء ... يجده اكبر من الكواكب واخلد من السماوات، لأنه عرف الله وأدرك حلاوة الإيمان...
وقمت بعد ذلك أصلي ، فلما قلت الله اكبر، محي الكون كله من وجودي، ولم يبقى الا انا العبد المؤمن الضعيف، والله ،الاله العظيم الجبار!
ليس في الدنيا شيء اجلَّ ولا أجمل من الصلاة !
بقلم الرجل الذي أحببته وأسعد كثيرا حينما أقرأ له .
إن الشيخ الأديب : على الطنطاوي رحمه الله رحمة واسعة .
أرجو أن تحوز على إعجابكم .